أخبار محلية

سألت الندى هل أنت حرٌّ فقال لا ولكنني عبد ليحيى بن خالدِ

قيل في محمد بن يحيى بن خالد البرمكي:

سألت الندى والجود ما لي أراكما
تبدلتما عزًا بِذلٍّ مؤبدِ
وما بال ركن المجد أمسى مهدمًا
فقال أصبنا بابن يحيى محمدِ
فقلت فهلَّا متمًا بعد موته
وقد كنتما عبديه في كل مشهدِ
فقالا أقمنا كي نعزى بفقده
مسافة يوم ثم نتلوه في غدِ

يحيى بن خالد وأحد الشعراء

دخل أحد الشعراء على يحيى بن خالد البرمكي فأنشده:

سألت الندى هل أنت حرٌّ فقال لا
ولكنني عبد ليحيى بن خالدِ
فقلت شراءً قال: لا، بل وراثةً
توارثني من والد بعد والد

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

الفضل بن يحيى والأعرابي

روى الأصمعي عن الفضل بن يحيى قال: خرج يومًا للصيد والقنص، وبينما هو في موكبه إذ رأى أعرابيًا على ناقة قد أقبل من صدر البرية يركض في سيره، قال: هذا يقصدني فلا يكلمه أحدٌ غيري، فلما دنا الأعرابي ورأى المضارب تضرب، والخيام تنصب والعسكر الكثير، الجمُّ الغفير، وسمع الغوى والضجة ظن أنه أمير المؤمنين، فنزل وعقل راحلته وتقدم إليه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال: اخفض عليك ما تقول: فقال: السلام عليك أيها الأمير، قال: الآن قاربت اجلس، فجلس الأعرابي، فقال له الفضل: من أين أقبلت يا أخا العرب؟ قال: من قضاعة، قال: من أدناها أو من أقصاها؟ قال: من أقصاها، فقال: يا أخا العرب: مثلك من يقصد من ثلاثمائة فرسخ إلى العراق لأي شيء، قال: قصدت هؤلاء الأماجد الأنجاد الذين قد اشتهر معروفهم في البلاد، قال من هم؟ قال: البرامكة، قال الفضل: يا أخا العرب، إن البرامكة خلق كثير، وفيهم جليل وخطير، ولكلٍّ منهم خاصة وعامة، فهل أفرزت منهم لنفسك من اخترته لنفسك وأتيته لحاجتك؟ قال: أجل أطولهم باعًا وأسمحهم كفًّا، قال: من هو؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد، فقال له: الفضل يا أخا العرب، إن الفضل جليل القدر عظيم الخطر، إذا جلس للناس مجلسًا عامًّا لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتَّاب والمناظرون للعلم، أعالم أنت؟ قال: لا، قال: أوردت على الفضل بكتاب وسيلة، قال: لا، فقال: يا أخا العرب غرتك نفسك، مثلك يقصد الفضل بن يحيى وهو ما عرفتك عنه من الجلالة، بأي ذريعة أو وسيلة تقدم عليه، قال: والله يا أمير ما قصدته إلا لإحسانه المعروف، وكرمه الموصوف، وبيتين من الشعر قلتهما فيه، فقال الفضل: يا أخا العرب أنشدني البيتين، فإن كانا يصلحان أن تلقاه بهما أشرت عليك بلقائه، وإن كانا لا يصلحان أن تلقاه بهما بررتك بشيء من مالي ورجعت إلى باديتك، وإن كنت لا تستحق بشعرك شيئا، قال: أفتفعل أيها الأمير، قال: نعم، قال: فإني أقول:

ألم ترَ أن الجودَ من عهد آدمٍ
تحدَّر حتى صار يمتصه الفضل
ولو أن أمًّا مسها جوع طفلها
غذته باسم الفضلِ لاغتذأ الطفل

قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك: هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر وأخذ الجائزة عليهما فأنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: أقول:

قد كان آدمُ حين حان وفاته
أوصاك وهو يجود بالحباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم
وكفيت آدم عولة الأبناء

قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك: ممتحنًا، هذا البيتان أخذتهما من أفواه الناس، فأنشدني غيرهما، فما تقول وقد رمقتك الأدباء بالأبصار وامتدت الأعناق إليك وتحتاج أن تناضل عن نفسك، قال: إذن أقول:

ملَّت جهابذ فضل وزن نائله
وملَّ كاتبه إحصاء ما يهبُ
والله لولاك لم يُمدح بمكرمةٍ
خلق ولم يرتفع مجدٌ ولا حسبُ

قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: إذن أقول:

ولو قيل للمعروفِ: نادِ أخا العلا
لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضلُ
ولو أنفقت جدواك من رمل عالج
لأصبح من جدواك قد نفد الرملُ

قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: هذا البيتان مسروقان أيضًا، أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال أقول:

وما الناس إلا اثنان صبٌّ وباذلٌ
وإني لذاك الصبُّ والباذلُ الفضلُ
على أنَّ لي مثلًا كما ذكر الورى
وليس لفضل في سماحته مثل

قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: أنشدني غيرهما، فما تقول؟ قال: أقول أيها الأمير:

حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد
فقامت به التقوى وقام به العدلُ
وقام به المعروف شرقًا ومغربًا
ولم يكُ للمعروف بعدٌ ولا قبلُ

قال: أحسنت، فإن قال: قد ضجرنا من الفاضل والمفضول أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم، فما تقول؟ قال: إذن أقول:

ألا يا أبا العباس يا واحد الورى
ويا ملكًا خدُّ الملوك له نعلُ
إليك تسير الناس شرقًا ومغربًا
فرادى وأزواجًا كأنهم نحلُ

قال: أحسنت يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: أنشدنا غير الاسم والكنية والقافية، قال: والله لئن زادني الفضل وامتحنني بعد هذا لأقولن أربعة أبيات ما سبقني إليهن أعرابي ولا أعجمي، ولئن زادني بعدها لأجمعن قوائم ناقتي هذه وأجعلها في فم الفضل، ولأرجعنَّ إلى قضاعة خاسرًا ولا أبالي، فنكس الفضل رأسه وقال للأعرابي: يا أخا العرب أسمعني الأبيات الأربعة، قال: أقول:

ولائمةٍ لامتك يا فضل في الندى
فقلت لها هل يقدح اللوم في البحرِ
انتهين فضلًا عن عطاياه للغنى
فمن ذا الذي ينهى السحاب عن القطرِ
كأن نوال الفضلِ في كل بلدة
تحدر هذا المزن في مهمةٍ قفرِ
كأن وفود الناس في كل وجهةٍ
إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القدرِ

قال: فأمسك الفضل عن فيهِ وسقط على وجهه ضاحكًا، ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب أنا والله الفضل بن يحيى سل ما شئت، فقال: سألتك بالله أيها الأمير إنك لهوَ، قال نعم، قال له: فأعطني الأمان، قال: عليك الأمان، اذكر حاجتك، قال عشرة آلاف درهم، قال الفضل: ازدريت بنا وبنفسك يا أخا العرب، تعطى عشرة آلاف درهم في عشرة آلاف، وأمر بدفع المال، فلما صار المال إليه حمده وزير الفضل وقال: يا مولاي هذا إسراف، يأتيك جلف من أجلاف العرب بأبيات استرقها من أشعار العرب فتجزيه بهذا المال، فقال: استحقه بحضوره إلينا من أرض قضاعة، قال الوزير: أقسمت عليك إلَّا أخذت سهمًا من كنانتك وركبته في كبد قوسك وأومأت به إلى الأعرابي، فإن رد عن نفسه ببيت من الشعر، وإلا فاستعطف مالك ويكون له في بعضه كفاية، فأخذ الفضل سهمًا وركبه في كبد قوسه وأومأ به إلى الأعرابي وقال له: ردَّ سهمي ببيتٍ من الشعر فأنشأ يقول:

لقوسك قوس الجود والوتر الندي
وسهمك سهم العز فارم به فقري

فضحك الفضل وأنشأ يقول:

إذا ملكت كفي منالًا ولم أنِل
فلا انبسطت كفي ولا نهضت رجلي
على الله إخلاف الذي قد بذلته
فلا مبقٍ لي بخلي ولا متلفي بَذلي
أروني بخيلًا نال مجدًا ببخله
وهاتوا كريمًا مات من كثرة البذل

ثم قال الفضل لوزيره: أعطِ الأعرابي مائة ألف درهم لقصده وشعره ومائة ألف درهم ليكفينا شر قوائم ناقته، فأخذ الأعرابي المال وانصرف وهو يبكي، فقال له الفضل: صمّ بكاءك يا أعرابي، أاستقلالًا للمال الذي أعطيناك؟ قال: لا، ولكني أبكي على مثلك يأكله التراب وتواريه الأرض، وتذكرت قول الشاعر:

لعمرك ما الرزية فقد مال
ولا فرس تموت ولا بعيرُ
ولكن الرزية فقد حُرٍّ
يموت لموته خلقٌ كثيرُ

ثم انصرف الأعرابي مسرورًا.

مروان بن أبي حفصة وجعفر البرمكي

دخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى فأنشده:

أبرَّ فما ترجو الجيادُ لحافه
أبو الفضل سباق الأخاصيم جعفر
وزير إذا ناب الخلافة حادث
أشار بما عنه الخلافة تصدر

فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فأنشده:

أقمنا باليمامة أو نسينا
مقامًا لا نريد به زوالا
وقلنا أين نذهب بعد معنٍ
وقد ذهب النوال فلا نوالا
وكان الناس كلهم لمعنٍ
إلى أن زار حفرته عيالا

حتى فرغ من القصيدة، وجعفر يرسل دموعه على خديه فقال: هل أثابك على هذه المرثية أحد من أهل بيته وولده؟ قال: لا، قال: فلو كان معنٌ حيًّا ثم سمعها منك كم كان يثيبك عليها، قال: أربعمائة دينار، قال: ما كنا نظن أنه يرضى لك بذلك، وقد أمرنا لك عن معنٍ رحمه الله بالضعف مما ظننته وزدناك مثل ذلك، فاقبض من الخازن ألفًا وستمائة دينار قبل أن تخرج، فقال: مروان يذكر جعفرًا وما سمح به عن معن:

نفحت مكافئًا عن جود معنٍ
لنا فيما تجود به سجالا
فعجلت العطية بابن يحيى
لنادبه ولم ترد المطالا
فكافأ عن صدى معنٍ جواد
بأجود راحة بذلت نوالا
بنى لك خالد وأبوك يحيى
بناءً في المكارم لن ينالا
كأن البرمكي لكلِّ مالٍ
تجود به يداه يُفاد مالا

إدارة الموقع

نبذة عن ادارة الموقع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى