من نوادر البرامكة
من نوادر البرامكة
الفضل بن يحيى وزائره
بينما كان الفضل بن يحيى في مجلسه محاطًا بالوزراء والأحشاد أتاه الحاجب فقال: إن بالباب رجلًا قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يدًا عليك يكاد يميته كتمانها، فقال: أدخلهُ، فدخل رجل جميل رث الثياب، فسلم بأفصح لسان، فأومأ إليه بالجلوس، فجلس، فسألهُ: ما حاجتك؟ قال: هل رأيت ما أنا عليه من رثاثة الثياب وضيق ذات اليد؟ قال: أجل، فما الذي لك علينا وقد كاد يقضي عليك كتمانه؟ قال: ولادة تقرب من ولادتك وجوار يدنو من جوارك واسم مشتق من اسمك، قال: أما الجوار فقد يمكن حصول ما ذكرت، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أعلمتني أمي أن يوم ولادتي كان موافقًا يوم ولادتك، وأن والدك سماك الفضل فسمتني فضيلًا إعظامًا لاسمك وخشية أن ألحق بعالي مجدك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون، قال: صدقت هذا المقدار الذي أتيت عليه، فما حال أمك؟ قال: توفيت رحمها الله، قال: فما منعك عن اللحوق بنا فيما مضى؟ قال: لم أرضَ بمقابلتك في زمن حداثة يقعدني عن لقاء الملوك، قال: يا غلام أعطه لكل عام من سنيهِ ألفًا، وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له، فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله.
يحيى بن خالد وأحد التجار
اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار كان شخص إلى الكوفة، فأخذ بعنان دابة الفضل وقال:
فأمر له بمائة ألف درهم.
مروان بن أبي حفصة وزبيدة ابنة جعفر
قال أبو الجنوب مروان بن أبي حفصة أبياتًا ورفعها إلى زبيدة ابنة جعفر يمتدح ابنها محمدًا وفيها يقول:
فأمرت أن يملأ فمه درًا.
الفضل بن يحيى وأبو علي بن الجهم
قال أبو علي بن الجهم: أصبحت يومًا وأنا في غاية من الضيق ما أهتدي إلى دينار ولا درهم ولا أملك إلا دابة عجفاء، وخادمًا خلقًا وطلبت الخادم فلم أجده ثم جاء فقلت: أين كنت؟ فقال: في اجتهاد شيء لك وعلف لدابتك، فوالله ما قدرت عليه، فقلت: أسرج لي دابتي، فأسرجها، فركبت، فلما صرت في سوق يحيى إذا أنا بموكبٍ عظيم، وإذا الفضل بن يحيى، فلما أبصرني قال: سر، فسرت قليلًا، وحجز بيني وبينه غلام يحمل طبقًا على باب ينادي جارية، فوقف الفضل طويلًا، ثم قال: سر، فسرت، ثم قال: تدري ما سبب وقفتي؟ قلت: إن رأيت أن تعلمني، قال: كانت لأختي جارية وكنت أحبها حبًّا شديدًا، وأستحي من أختي أن أطلبها منها، ففطنت أختي لذلك، فلما كان هذا اليوم ألبسَتْهَا وزينَتْهَا وبعثت بها إليَّ، فما كان من عمري يوم أطيب من يومي هذا، فلما كان هذا الوقت جاءني رسول أمير المؤمنين فأزعجني وقطع لذتي، ولما صرت إلى هذا المكان دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية فارتحت إلى ندائه، فقلتُ: أصابك ما أصاب أخا بني عامر حيث قال:
فقال: اكتب لي هذين البيتين، فعدلت لأطلب ورقةً أكتب له هذين البيتين فيها، فلم أجد، فرهنت خاتمي عند بقال وأخذت ورقة وكتبتهما وأدركته بها، فقال لي: ارجع إلى منزلك فرجعت ونزلت، فقال لي الخادم: أعطني خاتمك أرهنه على قوتنا، فقلت: قد رهنته، فما أمسيت حتى بعث لي بثلاثين ألف درهم جائزة وعشرة آلاف سلفًا عن شهر برزق أجراه لي في كل شهر.
جعفر والرشيد
لما غضب الرشيد على البرامكة، أُصيب في خزانة الجعفر جرة فيها ألف دينار ونيف، كل دينار منها وزنه مائة مثقال ومثقال، على أحد جانبي كل دينار منها مكتوب:
ابن العلويّ والفضل
قال عبد الله بن العلويِّ: «أتيت الفضل بن يحيى فأكرمني وأجلسني معه على فراشه، فكلمته في دَيْني ليكلم أمير المؤمنين في قضائه عني، قال: وكم دينك؟ قلت: ثلاثمائة ألف درهم، قال: نعم، فخرجت من عنده وأنا مغموم لضعف ردِّه عليَّ، فمررت ببعض إخواني مستريحًا إليهِ، ثم صرت إلى منزلي فوجدت المال قد سبقني من ماله خاصةً.
هبات الفضل بن يحيى
وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعاتبه أبوه في هذا، فقال: إن هذا صحبني وأنا لا أملك شيئًا، واجتهد في نصيحتي، وقال الشاعر:
أبان بن عبد الحميد مع البرامكة
قيل: «إن أبان بن عبد الحميد الشاعر مولى بني (رقاش) قدم بغداد واتصل بالبرامكة، وعمل كتاب كليلة ودمنة شعرًا، وله قصائد ومدائح في الرشيد والفضل بن يحيى».
ويقال: إن كل كلام نُقل إلى الشعر، فالكلام أفصح منهُ إلا هذا، وأول قصيدتِه هذه قولُهُ:
وعددها أربعة عشر ألف بيت مزدوجة في ثلاثة أشهر، قال: فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، فتصدق بثلث المال الذي أخذه.
حسن شمائل يحيى بن خالد
من كلامه: إن من بلغ رتبة فتاه بها فاعلم أن محلهُ دونها. وقال: يدل على كرم المرء سوء أدب غلمانه. وقال لابنه: خذ من كل علم طرفًا، فإن من جهل شيئًا عاداه. وقال: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية، والكتاب، والرسول. وكان يقول لأولاده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وكان يقول: إذا أقبلت الدنيا، فأنفق، فإنها لا تغني، وإذا ولت فأنفق فإنها لا تبقى وإليه أشار الشاعر:
وكان صِلات يحيى إذا ركب بأن يعرض لهُ في طريقه مائتا درهم، فركب ذات يوم فعرض له أديب شاعر فقال له:
قال يحيى: صدقت، فأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخليفة سأله عن حاله، فذكر له أنه كان تزوج وحلف بواحدة من ثلاث، إما أن يؤدَى المهر وهو أربعة آلاف، وأما أن يطلق، وإما أن يقيم مجريًا للمرأة ما يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر وأربعة آلاف ثمن منزل، وأربعة آلاف للبنية، وأربعة آلاف لما يحتاج إليه، وأربعة آلاف ليستظهر بها فأخذ عشرين ألف درهم.
مديح يحيى بن خالد
وكان يحيى بن خالد يجري على سفيان بن عيينة كل نهار ألف درهم، فلما مات يحيى كان سفيان يقول في سجوده: اللهم إن يحيى بن خالد كفاني أمر دنياي فاكفِه أمر آخرتِه.
حديث البرامكة في السجن
قال ابن خالد البرمكي لأبيه يحيى وهم في القيود، ولبس الصوف، والحبس: يا أبتاه بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة، أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس، فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يقول:
جعفر البرمكي وأحمد بن جنيد
قال أحمد بن جنيد الإسكافي — وكان أحضر الناس بجعفر البرمكي خص، فكان الناس يقصدونه في حوائجهم إلى جعفر، وإن رقاع الناس كثرت في خف أحمد بن الجنيد فلم تزل إلى أن تهيأ له الخلوة بجعفر —، فقال له: جعلني الله فداءك، قد كثرت رقاع الناس معي وأشغالك كثيرة، وأنت اليوم خالٍ، فإن رأيت أن تنظر فيها، قال له جعفر: على أن تقيم عندي اليوم، فقال: نعم، وصرف دوابه وأقام عنده، فلما تغذوا جاءه بالرقاع، فقال له: هذا وقت راحة فدعنا اليوم، فأمسك عنه وانصرف فلم ينظر في الرقاع، فلما كان بعد أيام خلا به فأذكره، فقال: نعم، على أن تقيم عندي اليوم فأقام عنه، ففعل به مثل الفعل الأول حتى فعل به ذلك ثلاثًا، فلما كان في آخر يوم أذكره، فقال: دعني الساعة، وناما، فانتبه جعفر قبل أحمد بن الجنيد، فقال لخادم له: اذهب إلى خف أحمد فجئني بكل رقعة فيه، ولا يعلمه أحمد، فذهب الغلام وجاء بالرقاع فوقع جعفر فيها عن آخرها بخطه بما أحب أصحابها، ووكد ذلك ثم أمر الغلام أن يردها إلى الخف، فردها، فانتبه أحمد، فلم يقل له فيها شيئًا وانصرف بها أيامًا، قال أحمد بن جنيد لكاتبِه: ويحك، هذه الرقاع قد أخلقت خفي، وهذا ليس ينظرها فتصفحها وجدد ما أخلق منها، فأخذها الكاتب فنظر فيها، فوجد الرقاع موقعًا عليها بما سأل أصحابها وأكثر، فتعجب من كرمِه ونبل أخلاقِه، ومن أنه قضى حاجته ولم يعلم بها لئلا يظن أنه اعتد بها عليه.
جود خالد بن برمك
روى الجاحظ قال: كان أصحابنا يقولون لم يكن يرى لجليس خالد بن برمك دارًا إلا خالد قد بناها، ولا ضيعة إلا وهو قد اشتراها ولا ولدًا إلا وهو اشترى أمه إن كانت أمة، وأمهرها إن كانت حرة، ولا دابة إلا هي من دوابه، وكان خالد البرمكي أول من سمى أهل الاستماحة والاسترفاد الزوار فقال بعضُ من قصده:
العطايا الثلاث التي وهبها الرشيد ويحيى وولداه
حج هارون الرشيد مرة ومعه يحيى بن خالد وولداه الفضل وجعفر، فلما وصلوا إلى المدينة جلس الرشيد ومعه يحيى فأعطيا الناس، وجلس الأمين ومعه الفضل بن يحيى فأعطيا الناس، وجلس المأمون ومعه جعفر فأعطيا الناس، فأعطوا في تلك السنة ثلاث أعطيات ضُربت بكثرتها الأمثال، وكانوا يسمونه عام الأعطيات الثلات، وأَثري الناس بسبب ذلك.
الفضل بن يحيى والشاعر
ولاه الرشيد خراسان فخرج إليه أبو الهول الشاعر مادحًا معتذرًا من شعر كان هجاه به فأنشده:
فقال له الفضل: لا أحتمل تفريقك بين رضاي وإحساني وهما مقرونان، فإن أردتهما معًا وإلا فدعهما معًا، ثم وصله ورضي عنه.
الفضل وإسحاق الموصلي والجارية
حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كنت قد ربيت جارية وثقفتها وعلمتها حتى برعت، ثم أهديتها إلى الفضل بن يحيى، فقال لي: يا إسحاق إن رسول صاحب مصر قد ورد إليّ يسألني حاجة أقترحها عليه، فدع هذه الجارية عندك فإني سأطلبها وأعلمه أني أريدها، فإنه سوف يحضر إليك ويساومك فيها فلا تأخذ فيها أقل من خمسين ألف دينار. قال إسحاق: فمضيت بالجارية إلى منزلي فجاء إلي رسول صاحب مصر وسألني عن الجارية فأخرجتها إليه، فبذل فيها عشرة آلاف دينار فامتنعت، فصعد إلى عشرين ألف دينار فامتنعت، فصعد إلى ثلاثين ألفًا فما ملكت نفسي حتى قلت له: بعتك، وسلمت الجارية إليه وقبضت المال، ثم إنني أتيت من الغد إلى الفضل بن يحيى فقال: يا إسحاق بكم بعت الجارية؟ قلت: بثلاثين ألف دينار، قال: ألم أقل لك لا تأخذ منه أقل من خمسين ألفًا؟ قلت: فداك أبي وأمي والله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين، فتبسم ثم قال: إن رسول صاحب الروم قد سألني أيضًا حاجة وسأقترح عليه هذه الجارية وأدله عليك، فخذ جاريتك وانصرف إلى منزلك فإذا ساومك فيها فلا تأخذ منه أقل من خمسين ألف دينار.
فأخذت الجارية وانصرفت إلى منزلي، فأتاني رسول صاحب الروم وساومني في الجارية، فطلبت خمسين ألفًا فقال: هذا كثير، ولكن تأخذ مني ثلاثين ألفًا، فوالله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين ألفًا حتى قلت له: بعتك، ثم قبضت المال منه وسلمت الجارية إليه، ومضيت من الغد إلى الفضل بن يحيى فقال: ما صنعت؟ وبكم بعت الجارية يا إسحاق؟ قلت: بثلاثين ألفًا، فقال: سبحان الله، ما أوصيتك أن لا تأخذ فيها أقل من خمسين ألفًا؟ قلت: جعلت فداك والله إني لما سمعت قوله ثلاثين ألفًا استرخت جميع أعضائي، فضحك وقال: خذ جاريتك واذهب إلى منزلك ففي غد يجيء إليك رسول صاحب خراسان فقوِّ نفسك ولا تأخذ منه أقل من خمسين ألفًا.
قال إسحاق: فأخذت الجارية ومضيت إلى منزلي، فجاءني رسول صاحب خراسان وساومني فيها فطلبت خمسين ألفًا فقال لي: هذا كثير، ولكن تأخذ ثلاثين ألفًا، فقويت نفسي وامتنعت، فصعد معي إلى أربعين ألف دينار، فكاد عقلي يذهب من الفرح ولم أتمالك أن أقول له بعتك، فأحضر المال وأقبضنيه وسلمت الجارية إليه، ومضيت من الغد إلى الفضل فقال لي: بكم بعت الجارية؟ قلت: بأربعين ألفًا، ووالله لما سمعتها منه كاد عقلي يذهب، وقد حصل عندي جعلت فداك مائة ألف دينار ولم يبقَ لي أمل، فأحسن الله جزاءك، فأمر بالجارية فأخرجت إلي وقال: يا إسحاق خذ جاريتك وانصرف، قال إسحاق: فقلت هذه الجارية والله أعظم الناس بركة، فأعتقتها وتزوجتها فولدت لي أولادي.
عمر بن العباس والفضل
قيل: إن محمد بن العباس حضر يومًا عند الفضل بن يحيى ومعه سفط فيه جوهر، وقال له: إن حاصلي قد قصر عما أحتاج إليه، وقد علاني دين مقداره ألف ألف درهم وإني أستحي أن أُعلم أحدًا بذلك، وآنف أن أسأل أحدًا من التجار أن يقرضني ذلك وإن كان معي رهن يفي بالقيمة، أبقاك الله لك تجار يعاملونك، وأنا أسألك أن تقرض لي من أحدهم هذا المبلغ وتعطيه هذا الرهن، فقال له الفضل: السمع والطاعة ولكن تقضي هذه الحاجة أن تقيم عندي اليوم، فأقام عنده، ثم إن الفضل أخذ السفط منه وهو مختوم بختمه وأرسل معه ألف ألف درهم وأنفذ الدراهم والسفط إلى منزله، وأخذ خط وكيله بقبضِه، فأقام محمد في دار الفضل إلى آخر النهار، ثم انصرف إلى داره فوجد السفط ومعه ألف ألف درهم، فسرَّ بذلك سرورًا عظيمًا، فلما كان من الغد بكَّرَ إلى الفضل ليشكره على ذلك، فوجده قد بكَّر إلى دار الرشيد، فمضى محمد إلى دار الرشيد، فحين علم به خرج بباب آخر ومضى إلى منزله، فمضى محمد إليه واجتمع به وشكره على فعله وقال: إني بكرت إليك لأشكرك على إحسانك، فقال له الفضل: إني فكرت في أمرك فرأيت أن هذه الألف ألفًا التي حملتها أمس إليك تقضي بها دينك ثم تحتاج إليه فتقترض، فبعد قليل يعلوك مثلها، فبكرت اليوم إلى أمير المؤمنين وعرضت عليه حالك وأخذت لك منه ألف ألف درهم أخرى، فلما حضرت إلى باب أمير المؤمنين خرجت أنا بباب آخر، وكذلك فعلت لما حضرت إلى باب أبي لأني ما كنت أوثر أن ألقاك حتى يُحمل المال إلى منزلك، وقد حُمل، فقال له محمد: بأي شيء أجازيك على هذا الإحسان، ما عندي شيء أجازيك به إلا أني ألتزم بالأيمان المؤكدة وبالطلاق والعتاق والحج إني ما أقف على باب غيرك ولا أسأل سواك، قيل: وحلف محمد أيمانًا مؤكدة وكتب بها خطه وأشهد به عليه أن لا يقف بباب غير الفضل بن يحيى، فلما ذهبت دولة البرامكة وتولى الفضل بن الربيع الوزارة بعدهم احتاج محمد فقالوا له: لو ركبت إلى الفضل بن الربيع، فلم يفعل والتزم باليمين، فلم يركب إلى أحد ولم يقف على باب أحد حتى مات.
جعفر وعبد الملك بن صالح بن العباس
قيل: إن جعفر بن يحيى البرمكي جلس يومًا للشرب وأحب الخلوة، فأحضر ندماءَه الذين يأنس بهم وجلس معهم وقد هيئ المجلس ولبسوا الثياب المصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا الثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفر بن يحيى تقدم إلى الحاجب أن لا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من الندماء كان قد تأخر عنهم اسمه عبد الملك بن صالح، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان، وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه وبذل له على ذلك أموالًا جليلة فلم يفعل، فاتفق أن هذا عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح الذي تقدم جعفر بن يحيى بالإذن له وأن لا يدخل غيره، فأذن الحاجب له فدخل عبد الملك بن صالح العباس على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله أن يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضًا للقصة وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئًا، فأحضر له قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه وقال: اسقونا من شرابكم فسقوه رطلًا وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا، ثم باسطهم ومازحهم، وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحًا عظيمًا وقال له: ما حاجتك، قال: جئت — أصلحك الله — في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها، أولها، أن عليَّ دينًا مبلغه ألف ألف درهم أريد قضاءه، ثانيًا، أريد ولاية لابني يشرف بها قدره، وثالثها، أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة، فإنها بنت عمه وهو كفء لها، فقال جعفر بن يحيى: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث: أما المال ففي هذا المساء يُحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد وليت ابنك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرف في أمان الله، فراح عبد الملك إلى منزله، فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد حضر عند الرشيد وعرفه ما جرى وإنه قد ولاه مصر وزوجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كتب له التقليد بمصر وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
في المكافأة
قال الحسن بن سهل: كنت يومًا عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلى في مجلسه لإحكام أمر من أمور الرشيد، فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج فقضاها لهم، ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قيامًا أحمد بن أبي خالد الأحول فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه وقال: يا بني إن لأبيك مع أبي هذا الفتى حديثًا فإذا فرغت من شغلي هذا فذكرني أحدثك، فلما فرغ من شغله وطعم قال له ابنه الفضل: أعزك الله يا أبي أمرتني أن أذكرك حديثَ أبي خالد الأحول، قال: نعم يا بني، لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيرًا لا يملك شيئًا فاشتد به الأمر إلى أن قال لي من في منزلي: إن كتمنا حالنا زاد ضررنا ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به، قال: فبكيت لذلك يا بني بكاءً شديدًا، وبقيت ولهان حيران مطرقًا مفكرًا ثم تذكرت منديلًا كان عندي فقلت لهم: ما حال المنديل، فقالوا هو باق عندنا، فقلت: ادفعوه إلي، فأخذتُه ودفعتُه إلى بعض أصحابي وقلت له: بعه بما يسر، فباعه بسبعة عشر درهمًا، فدفعتها إلى أهلي وقلت: أوقفوها إلى أن يرزق الله غيرها، ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي، فإذا الناس وقوفا على داره ينتظرون خروجه فخرج عليهم راكبًا، فلما رآني سلم عليّ وقال: كيف حالك؟ فقلت: يا أبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلًا بسبعة عشر درهمًا، فنظر إليَّ نظرًا شديدًا وما أجابني جوابًا، فرجعت إلى أهلي كسير القلب وأخبرتهم ما اتفق لي مع أبي خالد، فقالوا: بئس والله ما فعلت، توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل فكشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك، فأزريت عنه بنفسك وصَغُرت عنه منزلتك بعد أن كنت عنده جليلًا، فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين، فقلت: قد قُضي الأمر الآن بما يمكن استدراكه، فلما كان من الغد بكرت إلى الخليفة، فلما بلغت الباب استقبلني رجل فقال لي: قد ذكرت الساعة بباب أمير المؤمنين، فلم ألتفت لقوله، فاستقبلني آخر فقال لي كمقالة الأول، ثم استقبلني حاجب أبي خالد فقال لي: أين تكون قد أمرني أبو خالد بإجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين، فجلست حتى خرج، فلما رآني دعاني وأمر لي بمركوب فركبت وسرت معه في منزله، فلما نزل قال: عليّ بفلان وفلان الحناطين ،فأُحضرا، فقال لهما: ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم؟ قالا: نعم، قال: ألم أشترط عليكما شركة رجل معكما، قالا: بلى، قال: هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما، ثم قال لي: قم معهما، فلما خرجنا قالوا لي: ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون فيه الربح الهنيء، فدخلنا مسجدًا، فقالا لي: إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء، فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نعجله لك فتنتفع به ويسقط عنك التعب والكلف؟ فقلت لهما: وكم تبذلان لي، فقالا: مائة ألف درهم، فقلت: لا أفعل، فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى أن قالا لي: ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا، فقلت: حتى أشاور أبا خالد، قالا: ذلك لك، فرجعت إليه وأخبرته، فدعا بهما وقال لهما: هل وافقتماه على ما ذكر، قالا: نعم، قال: اذهبا فقبضاه المال الساعة، ثم قال لي: أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل، فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به، فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلى ما صار، ثم قال لولده الفضل: يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل وما جزاؤه؟ قال: حق لعمري وجب عليك له، فقال: والله يا ولدي ما أجد له مكافأة غير أني أعزل نفسي وأوليه، ففعل ذلك، وهكذا تكون المكافأة.